فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها: {وَفَرْعُهَا} أي: أعلاها ورأسها: {فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: ثمرها: {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي: بإرادته وتكوينه: {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ} أي: استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية: {مِن فَوْقِ الأَرْضِ} أي: لأن عروقها قريبة منه: {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي: استقرار.
تنبيه:
لحظ في الممثل به- أعني الشجرة- أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له. فمنها: كونها طيبة، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة. وكون أصلها ثابتًا أي: راسخًا باقيًا في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور. وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها. ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله. ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له- أعني الحق- وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام.
ولما كان المثل مضروبًا للحق والباطل في الثبات وعدمه، والقصد أهلهما؛ صرح بهما فذلك له، فقال في أهل المثل الأول:
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} القول الثابت: هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق. و{بالقول} جوزوا تعلقه بـ {يثبت} و{آمنوا}. والمعنى على الأول: ثبتهم بالبقاء على ذلك، أو ثبتهم في سؤال القبر به، وعلى الثاني فالباء سببية، والمعنى: آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه. و{في الحياة} متعلق بـ {يثبت} أو بـ {الثابت} كما قاله أبو البقاء. واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال: القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلِّوا، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل: معناه: الثبات عند سؤال القبر. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}». رواه الشيخان وأهل السنن.
وعليه، فتفسير الآخرة بالقبر؛ لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا.
وقال في أصحاب المثل الثاني: {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} أي: يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها: {وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} أي: من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}.
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى: {وبرزوا لله جميعًا إلى قوله تحيتهم فيها سلام}، فضرب الله مثلًا لكلمة الإيمان وكلمة الشرك.
فقوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلًا} إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم: ألم تعلم.
ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل.
وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف {لَمْ} التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل {ضرب} بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به.
والاستفهام في {ألم تر} إنكاري، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه، أو هو للتقرير، ومثله في التقرير كثير، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك.
والخطاب لكل من يصلح للخطاب.
والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام بـ {كيف}.
وإيثار {كيف} هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه.
وتقدم المثَل في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} في سورة البقرة [17].
وضَرْب المثل: نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة.
وتقدم عند قوله: {أن يضرب مثلًا ما} في سورة البقرة [26].
وإسناد {ضرب} إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام.
والمثَل لما كان معنى متضمنًا عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل {ضرب} به على وجه إجمال يفسره قوله: {كلمة طيبة كشجرة} إلى آخره، فانتصب {كلمة} على البدلية من {مثلًا} بدلَ مفصّل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله: {ومثل كلمة خبيثة}.
والكلمة الطيبة قيل: هي كلمة الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك.
والطيبة: النافعة.
استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية.
وتقدم عند قوله تعالى: {وجرين بهم بريح طيبة} في سورة يونس [22].
والفَرع: ما امتد من الشيء وعَلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء.
وفرع الشجرة غصنها، وأصل الشجرة: جذرها.
والسماء مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر.
والأُكْل بضم الهمزة المأكول، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام.
وتقدم عند قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} في سورة الرعد [4].
فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رُسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار.
ووفرة الثِمار، ومتعة أكلها.
وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلًا لجمع التشبيه وتفريقه.
وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب.
وقد اختصر فيها التمثيل اختصارًا اكتفاءً بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة.
وفي جامع الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال: هي النخلة، {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} قال: هي الحَنْظَل.
وجملة {اجتثت من فوق الأرض} صفة ل {شجرة خبيثة} لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها.
والاجتثاث: قطع الشيء كلّه، مشتق من الجُثة وهي الذات.
و{من فوق الأرض} تصوير ل {اجتثت}.
وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة {أصلها ثابت وفرعها في السماء}.
وجملة {ما لها من قرار} تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار.
والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، فالكلمة في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}.
والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل: {ضرب الله مثلا عبدًا مملوكا} إلى قوله: {ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا}، فانظر بيانه هنالك.
وجملة: {ويضرب الله الأمثال للناس} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والواو واو الاعتراض.
ومعنى لعل رجاء تذكرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ}.
جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به: ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت.
والقول: الكلام.
والثابت الصادق الذي لا شك فيه.
والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في {القول} لاستغراق الأقوال الثابتة.
والباء في {بالقول} للسببية.
ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين.
وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فلم تعترهم ندامة ولا لهف.
ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولًا وانسياقًا، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها.
وتفسير ذلك بمقابلته بقوله: {ويضل الله الظالمين}، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة.
والضلال: اضطراب وارتباك، فهو الأثر المناسب لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة.
والظالمون: المشركون، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [سورة لقمان: 13].
ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر.
روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
وجملة {ويفعل الله ما يشاء} كالتذليل لما قبلها.
وتحت إبهام {ما يشاء} وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال.
وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها.
وإظهار اسم الجلالة في {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل. اهـ.

.قال الشعراوي:

وبعد أن شرح الحق سبحانه أحوال أهل القُرْب والسعادة، وأهل البُعْد والشقاء، أراد عز وجل أن يضرب لنا مثلًا يوضح فيه الفارق بين منهج السعداء الذين عاشوا بمنهج الله، ومنهج الأشقياء الذين اتبعوا مناهج شتى غير منهج الله، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السماء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا...}.
والمَثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي. وأنت تقول لصديق لك: هل رأيت فلانًا؟ فيقول لك: لا لم أراه؛ فتقول له: إنه يُشبه صديقنا علان. وهكذا توضح أنت مَنْ خَفِي عن مُخَيلة صديقك بمَنْ هو واضح في مُخَيلته.
والحق- سبحانه وتعالى- يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسَّة، كي ينقل المعاني إلى أذهاننا؛ لأن الإنسان له إلْفٌ بالمحُسِّ؛ وإدراكات حواسه تعطيه أمورًا حسية أولًا، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا...} [البقرة: 26].
وقد قال الكافرون: أيضرب الحق مثلًا ببعوضة؟ ذلك أنهم لم يعرفوا أن البعوضة لها حياة، وفيها حركة كأيِّ كائن؛ وتركيبها التشريحي يتشابه مع التركيب التشريحي لكل الأحياء في التفاصيل؛ ويؤدي كل الوظائف الحيوية المطلوبة منه.
ولا أحدَ غير الدارسين لعلم الحشرات يمكن أن يعرف كيف تتنفس، أو كيف تهضم طعامها؛ ولا كيفية وجود جهاز دمويّ فيها؛ أو مكان الغُدد الخاصة بها؛ وهي حشرة دقيقة الصنع.